لقد فرض تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، ثم تنظيم دولة الخلافة لاحقًا نفسه في الساحة الإقليمية بأخبار تحركاته، ومعاركه، وجميع المراقبين متفقون على أنه أصبح اليوم لاعبا مهما في الساحة الإقليمية لكنهم مختلفون في حقيقته؛ فالمناصرون له يرون أنه حركة جهادية تسعى إلى إقامة الخلافة الإسلامية، وتستقطب الشباب المجاهدين من كل بقاع العالم، وآخرون يرون أنه لعبة استخباراتية تديره قوى إقليمية لتشويه ثورات العرب في سوريا والعراق، فأيٌّ من هذين الرأيين هو ما يعبر عن حقيقة التنظيم؟
في ظل واقع معقد كالوضع العراقي والسوري بتنوعهما الديني والطائفي والعرقي، وفي ظل واقع مستعر غير مستقر، وفي وضع إقليمي ساخن، وفي غياب المعلومات الموثقة تظل الحقيقة الأكيدة صعبة المنال، وتظل كل الاحتمالات واردة، وعليه فلا يمكن الجزم بحقيقة التنظيم، فالذين يرون أنه حركة جهادية ينطلقون من وجود تزكيات من شخصيات يرون أنها جهادية صادقة كأيمن الظواهري، وثلة من قدامى المجاهدين في أفغانستان انضموا للتنظيم، وأن التنظيم ليس وليد اليوم، إذ مرَّ بعدة مراحل قبل أن يصل إلى ما هو عليه اليوم، إذ بدأ بتشكيل جماعة التوحيد والجهاد بقيادة أبي مصعب الزرقاوي في 2004، ثم بعد ذلك بايع الزرقاوي ابن لادن زعيم القاعدة السابق ليصبح اسم التنظيم (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين) وكثف التنظيم من عملياته إلى أن أصبح واحدا من أقوى التنظيمات العسكرية في الساحة العراقية، وبعد مقتل الزرقاوي 2006 أصبح أبو حمزة المهاجر زعيما للتنظيم، وفي نهاية السنة نفسها تم تحويل اسمه إلى (دولة العراق الإسلامية) بزعامة أبي عمر البغدادي، وفي 2010 قتل أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر، وبعد مقتلهما بعشرة أيام انعقد مجلس شورى الدولة واختار أبا بكر البغدادي زعيمًا للتنظيم والناصر لدين الله سليمان وزيراً للحرب، وقد بارك هذه الخطوة أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، ثم بعد دخوله الساحة السورية جرى تغيير الاسم إلى (الدولة الإسلامية في العراق والشام). والذين يرون أن التنظيم لعبة استخباراتية يطرحون تساؤلات وجيهة عن طريقة عمل التنظيم، وأنها في غالبها تصب في مصلحة نظامي الحكم في سوريا والعراق؛ فمنذ ظهور داعش على الساحة السورية وهي تعمل على تحقيق أجندة نظام الأسد بتشويه الثورة، ومحاولة إفشالها، فمن أهم أعمالها محاولة اغتيال قيادات من المعارضة السورية والجيش السوري الحر الذين لم يستطع نظام الأسد الوصول إليهم فقامت داعش بتصفيتهم خدمة للنظام، وأيضًا كل ما قامت به داعش من مجهود عسكري في الساحة السورية هو السيطرة على المناطق التي تمكن الثوار السوريون من تخليصها من نظام الأسد، وجعلت الثوار بين نارين؛ نارِ النظام ونارِ داعش، وطبقت فهمًا متنطعًا للإسلام يركز على العقوبات والتفريق المذهبي، وهي بهذا قدمت خدمة جليلة لنظام الأسد داخليا بتنفير السكان من الثورة، وخارجيا بتصوير الثورة بأنها ثورة متطرفين إرهابيين، ومما يثير الشبهة في حقيقة هذا التنظيم أن بعضا من كان في التنظيم أثار تساؤلا عن قائد التنظيم، كما في شهادة طرحها أحد من كان منضمًا للتنظيم قال فيها: «فقد كان اختيار أبي بكر البغدادي أسوأ من سابقه، فلا هُوَ مَعْلومٌ لنا ولا لغالب الإخوة القادة».
وبعدُ فنحن أمام وجهتي النظر هاتين في حقيقة هذا التنظيم، فأيهما أقرب للحقيقة؟
أعتقد أن في كلا الرأيين شيئًا من الحقيقة، فالتنظيم نشأ نشأة جهادية – حسب وجهة نظر القاعدة وأنصارها- لكن مع تطوره حصل فيه تطور فكري وتحول من (تنظيم جهادي) إلى (تنظيم ثوري) وذلك بعد أن تسرب إلى قيادته وجوه بعثية بعد أن أعلنت التوبة، وأظهرت الالتزام الديني؛ فحسب رسالة أبي أحمد الذي كان عضوًا بارزا في التنظيم فإن التنظيم بعد زعامة البغدادي: «دَخَلَ فيه كَثيرٌ من ضُبّاط الجيش العراقي البعثي المنشقِّـين الذين أظهروا التوبة ولكن بَقـيَتْ فيهم عقلية البعث، فأصبحت (دولة العراق الإسلامية) في الحقيقة (دولة العراق البعثية) بوُجود- ضُبّاط البعث السابقين- في كل المناصب، فقد تمّ تعييـن المقدَّم أبي مسلم التركماني مُشرِفاً عاماً، والمقدّم البيلاوي قائدا عسكريا للتنظيم، والمقدّم أبي أحمد العلواني والياً على ديالى وأَمْنياً ومُنسقاً، والمقدّم أبي عمر النعيمي والياً على الرمادي، والمقدّم أبي عقيل موصل والياً على الموصل، والبعثي حجي بكر مُعاوِناً للبغدادي فـصاروا دولة بعث بلِحى وسواك، حتى قال الشيخ المياحي- أحد شيوخ القاعدة في العراق - عن دولة البغدادي بالحرف: «دولة بعثية بِصِبْغة إسلامية» انتهى كلام أبي أحمد.
نحن إذن أمام (تنظيم جهادي) بدأ برؤية جهادية – حسب رؤية قاعدة ابن لادن - ثم تطور إلى (تنظيم ثوري) بغطاء إسلامي، يقوده حزب شمولي سلطوي، تتحكم به أدبيات الحراك الثوري كما تفهمه الأحزاب الشمولية، وهو حراك لا يلتزم بأي أخلاقيات دينية، ومستعد للتعاون مع أي استخبارات في سبيل تحقيق هدفه، وهذا ما يفسر الانفلات الأخلاقي لتصرفات التنظيم، وبعض التصرفات المشبوهة له في سوريا، ويظل المجندون فيه من الشباب المتدينين المخلصين مغيبين تماما عن حقيقة التطور الذي حصل في التنظيم، فما زالوا يظنون أنهم يحملون شعلة الأمل، وصخرة الخلاص للعالم بجهادهم.